أنظر هذه الآية الجميلة(81) من سورة آل عمران: " وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ". جمع الله النبيين وقال لكل منهم لو أنك وأنت تحيا جاءك محمد لابد من أن تتبعه وتنصره. وأقر الأنبياء بهذا وشهد الله معهم. هذه الآية الكريمة توضح مكانة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الإصلاح في الأرض مرهون بإتباع تعاليمه وما جاء به. دين المهام الصعبة
اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء للتأمل والعبادة قبل نزول الوحي..لماذا فعل ذلك؟ هي عبادة مارسها النبي من سن الثلاثين حتى الأربعين، حيث كان يتأمل عظمة خلق الله، وكان ذلك هو التمهيد لأن يكون نبياً. كان الوصول إلى غار حراء صعباً ومحفوفاً بالمشقة، يصعب على الشاب بلوغه، وكان هذا الغار يكشف السماء باتساعها، كما يرى المطل منه الكعبة أمام عينيه.
كان يتعبد ويتعبد، بينما هو في ليلة من الليالي، يأتيه الملك ليلاً. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فبينما أنا في الغار إذا بالملك". وجاءه في صورته الملائكية لا في صورة بشر. يقول صلى الله عليه وسلم: " فأخذني وضمني حتى ظننت أنه الموت – حتى بلغ مني الجهد – ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني وضمني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني وقال اقرأ. فقلت ما أنا بقارىء فأخذني الثالثة وغطني – هزني بعنف – حتى ظننت أنه الموت.. وقال اقرأ فقلت ماذا أقرأ فقال: "اقرأ باسم ربك الذي خلق". أول كلمة في الرسالة تنبئ عن أن هذا الدين دين علم ودين إصلاح. كانت البداية شديدة، لأن لهذا الدين مهام صعبة هدفها إصلاح البشرية حتى يوم القيامة. البداية قوية مثلما قال الله سبحانه وتعالى لزكريا ويحيى وعيسى: خذ الكتاب بقوة. هذه الضمة من جبريل لمحمد كانت ضمة لكل واحد منا. أنتم أصحاب رسالة فخذوا الرسالة بقوة. وينزل النبي صلى الله عليه وسلم من الجبل، يقول: زملوني زملوني.. ومن يومها يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم في حمل الرسالة والعيش بها. ليلة.. قيام ليل. يصلي بين يدي الله. ونهاره.. يأخذ بيد الناس.
وينزل القرآن عليه: "يا أيها المزمل قم". و"يا أيها المدثر قم". و"فإذا فرغت فانصب".
إذا فرغت من دعوة الناس للإسلام لا تركن إلى الراحة، وإنما قم لتصلي. الشرط الأول للإصلاح السور كلها تبدأ بنفس الرسالة أول ثلاث سور نزلت من القرآن تدعو إلى اليقظة.
"يا أيها المزمل قم الليل". و"يا أيها المدثر قم فأنذر". و"فإذا فرغت فانصب".
طريقة هو طريق الإصلاح. لقد جاء لإصلاح الأرض. هذه سنته. فمن أراد إتباع سنته فعليه بالإصلاح. وتدعوه السيدة خديجة للخلود إلى الراحة فيقول لها مضى زمن النوم يا خديجة. ويقضي الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث سنوات يدعو الناس فلا يؤمن به إلا أربعة أشخاص. السيدة خديجة وصاحبه أبو بكر وعبده زيد بن حارثه وطفل صغير هو علي بن أبي طالب. هؤلاء هم الذين بدأ بهم الإسلام. ثم يأتي أبو بكر بسبعة من العشرة المبشرين بالجنة. وتبدأ اجتماعات النبي صلى الله عليه وسلم بهم في دار الأرقم بن أبي الأرقم. يربيهم التربية الإيمانية. ويعلمهم الصبر والتضحية والتوكل. وتنزل قصص الأنبياء: يوسف وهود لتعلمهم الصمود والصبر. ويبدأ الصحابة في التجمع مع النبي صلى الله عليه وسلم. ويظل هكذا مدة ثلاث سنوات، وبعدها تنزل الآيات "فاصدع بما تؤمر". أعلن الإسلام.. ويصعد النبي صلى الله عليه وسلم فوق أشهر جبل في مكة، جبل الصفا، ليعلن الإسلام في الأرض، بينما الكعبة فيها 360 صنماً. لم يخجل ولم يخف. يا بني كذا ويا بني كذا، فيتجمع الناس أمامه. فيقول لهم: أرأيتم لو أخبرتكم أن خلف هذا الجبل جيشاً يريد أن يغير عليكم أكنتم مصدقي؟ فقالوا ما جبرنا عليك كذباً، فقال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فيبدأ الإيذاء والتضحيات.
صور الإيذاء
هل تحدثنا عن صور الإيذاء التي تعرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
كانوا يقذفونه بالرمال فيعود إلى بيته معفر الوجه والجسد، فتبكي ابنته زينب، فيقول لها: لا تبكي يا بنية فإن الله ناصر أباك. الإصلاح سيأتي حتماً. وكانوا يقذفونه أثناء سجوده في الكعبة بأمعاء جمل ميت، فيظل ساجداً فلربما يمر أحد من المسلمين فيرفع الأوساخ من فوق ظهره. وتمر السيدة فاطمة فتراه ونزيح أمعاء الجمل الميت من فوق ظهره وتبكي. فيقول لها: لا تبكي يا بنية فإن الله معز دينه وناصر أباك. ويأتي عقبة بن أبي معيط فيخلع عباءته ويبرمها ويحيط بها عنق النبي ليخنقه ويسقط النبي على ركبتيه. ويسخرون من اسم النبي في الغدو والرواح ويقولون: جاء مذمم. ذهب مذمم. فيتضايق الصحابة ويغضبون، فيقول لهم النبي ضاحكاً: دعوهم إنما يشتمون مذمماً وأنا محمد. قوة الصحابة... بالتضحيات
ويستمر النبي في دعوته ويزداد الإيذاء فيموت من يموت ويقتل من يقتل، ويعمى من يعمى. ويأتي أبو جهل ويجن من قدرة المرأة المؤمنة سمية على الصمود – وعمرها فوق الستين – وتقول له بعناد: أحد أحد. فيطعنها بحربته في موضع عفتها، فتموت. ويمر النبي صلى الله عليه وسلم عليها ويقول: صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة. كان يدرك وهو النبي المرسل أن الإصلاح لن يتحقق غداً، إنما بعد سنين طويلة، وفعلاً لم يتحقق الإصلاح إلا بعد 23 سنة. تموت سمية، وعمار يسلخ ويضرب. ويموت ياسر، ويأتي الكفار بخباب بن الإرث فينزعون عنه ملابسه، ويدفعونه للنوم على الحجر بعد تسخينه بالفحم، فينطفئ الفحم من شحم ظهره. ويذهب خباب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على هذه الحالة ويقول ل: ألا تدعولنا؟.. فيرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم: والله ليتمن الله هذا الدين ولكنكم تستعجلون. اصبروا.. لا شىء يتم في يوم وليلة التضحيات أكسبت الصحابة قوة. لا.. للمفاوضات
وتبحث قريش لها عن حل، فيعرضون الملك والجاه والسلطان على محمد، ويعرضون عليه المال والزواج بامرأة جميلة. فيقول النبي رداً على عروضهم: أفرغت يا أبا الوليد؟.. قال نعم. قال له الرسول اسمع مني. وبدأ النبي يقرأ سورة فصلت، إلى أن وصل إلى قول الله تعالى: "فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود" فوضع يده على فم النبي فزعاً وقال له: ناشدتك بالرحم أن تسكت. ولم تفلح من النبي سياسة المفاوضات. فذهبوا إلى عمه أبي طالب يقولون له أبعد عنا ابن أخيك وإلا سنقتله. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمه الذي جاء ينذره: والله يا عمي لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا المر ما تركته حتى يظهره الله أو أموت في سبيله. فيقول له أبو طالب: اذهب يا بني فافعل ما تشاء. ثم يعزلون النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في صحراء قاحلة اسمها شعب بني طالب، حتى أكل الصحابة ورق الشجر، وتذهب السيدة خديجة وتصر على البقاء معهم ثلاث سنوات، ثم يخرجون من شعب بني طالب وهم صامدون.
قمة التسامح
وفي عام واحد تموت خديجة ويموت أبو طالب الذي كان يحميه، ولا يبقى للرسول إلا الله فيبذل مزيداً من الجهد، ويذهب إلى الطائف ماشياً مائة كيلومتراً على قدميه، فيخرج أهل الطائف في صفين لاستقباله برجمه بالطوب والحجارة، ويحاول زيد بن حارثة حماية النبي بجسده من الحجارة، ويسير النبي صلى الله عليه وسلم بينما الدم يسيل من ساقيه، وهو في الخمسين من عمره، فيجيئه ملك الجبال يقول له: يا محمد لو شئت أطبق عليهم الأخشبين الآن (يقصد الجبلين)، فيقول له: لا عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله. ويعود النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف وهو يدعو ربه: "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس. أنت رب العالمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علىّ غضب فلا أبالي". فيدعوه الله لرحلة الإسراء والمعراج، ليتعرف على مقامه في السماء. ويعرض النبي نفسه على القبائل لتدخل في دين الله، فيرفضونه. حتى أن إحدى القبائل ضرب رجل منها ناقة النبي في خاصرتها فقذفت به من فوقها، فضحكوا عليه. 26 مرة يعرض النبي نفسه على القبائل فيرفضون. ولم ييأس. الهجرة هي الحل
هل كانت الهجرة هي الحل لهذه المشكلة المستعصية؟
نعم. الهجرة لم تكن شيئاً هيناً. خرج النبي من مكة، ونظر إليها وهو خارج وقد دمعت عيناه، وقال: الله يعلم انك أحب البلاد إلى قلبي، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت أبدا. ويترك الصحابة بيوتهم وأموالهم ليهاجروا مع النبي إلى المدينة، وتبدأ حياة جديدة. وتبدأ عشرات المعارك غزوة أحد وغزوة بدر وغزوة حنين. ويسقط النبي في أحد في حفرة وتكسر رباعيته. 13 عاماً في مكة من الاضطهاد والتعذيب والمطاردة. ثم عشرة أعوام في المدينة كلها جهاد ومعارك. وإلى أن مات النبي وعمره 62 عاماً كان مقاتلاً صلباً. يقول على بن أبي طالب: كنا إذا اشتدت المعركة وحمى الوطيس نأتي خلف الرسول صلى الله عليه وسلم فنتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم: انكسر السيف في يده في غزوة حنين فيصرخ في المقاتلين: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب فيجمع المجاهدين ويشد أزرهم صلى الله عليه وسلم .
عن موقع رسول الله صلي الله عليه وسلم .